التسامح
نشرت بعض الصحف مؤخراً خبراً من جامعة ( ليدز ) شمال إنجلترا يذكر أن أستاذ علم النفس بالجامعة يقوم بتعليم البريطانيين التسامح ، وقد سجل أكثر من سبعين شخصاً أسماءهم للالتحاق بالدورة التعليمية التي تستمر عشرين أسبوعاً وتعتبر الأولى من نوعها في العالم كما يقولون ، وقد صرح الأستاذ ( كين هارت ) القائم على المشروع أن الكراهية التي نشعر بها داخلنا ورم ٌ خبيث وأضاف أن كبت الغضب يؤدي إلى أمراض مثل ارتفاع في ضغط الدم وامراض قلبية و أصبحت الكراهية والمرارة والرغبة في الثأر السبب الحقيقي وراء تأزمهم .
دليلك إلى السعادة والنجاح في الحياة / د. أنيس أحمد عن صحيفة الشرق الأوسط
وهذه المحاضرة لا تهدف فقط إلى إزالة الكراهية من نفوس هؤلاء الناس وإنما إلى تقديم الدليل على أن وصفة الطبيب ( هارت ) من أجل التسامح حلوة المذاق وتبدأ هذه المحاضرات بإزالة الصورة السلبية عن التسامح من الأذهان لأن التسامح فعلٌ من مجني عليه تجاه المسيء ، وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي وهناك إصدارات كثيرة خاصة بهذا المشروع للتدريب على كيفية إبداء التسامح وكيفية النظر إلى الغضب والضغائن وتأثيرها . وأصبحت هذه الأخلاق والصفات مواد تدرس في الكليات والجامعات الأجنبية . وقد أنشئت مؤسسة خيرية لهذا الغرض لمساعدة الناس الذين يريدون التحرر من الماضي لكي تتحسن حالتهم ويشعروا بالسعادة وبين هارت أن التسامح مهارة من الممكن تعلمها وتدريب الناس عليها إذا جرى صقل إمكاناتهم .
تأمل معي أخي الكريم هذا المشروع جيداً ، ألا تلاحظ أن هناك من هم أحق بالتسامح والعفو والصفح ونبذ الخصومات فيما بيننا ! !
نعم ..أنت وأنا .. هو وهي .. نحن وهم .. أنهم المسلمين الذي دعاهم دينهم الحنيف إلى التخلق بهذا الخلق فلا عجب أن نرى القرآن العظيم يأمر به ويحض عليه في أكثر من آية في كتاب الله عز وجل :
( إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ) الحجرات : 10
( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) الأنفال : 1
( وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسووا الفضل بينكم ) البقرة : 237
( فمن عفا وأصلح فأجرة على الله ) الشورى : 40
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالعفو عن أصحابه والاستغفار لهم، كما قال تعالى: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)). [آل عمران: 159
وأثنى سبحانه على المتصفين بالعفو عن الناس وكظم الغيظ وجعل تلك الصفة من الصفات التي يستحقون بها مغفرة الله وعفوه ودخول جنته.
كما قال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)) [آل عمران: 133ـ134].
ومن الآيات القرآنية الكريمة التي أنزلها الله تعالى، لتسمو بالمؤمن إلى أعلى درجات العفو والتسامح، تلك الآية التي نزلت في شأن أبي بكر الصديق وابن خالته مسطح بن أثاثة، الذي شارك في حديث الإفك الباطل، فقد كان مسطح من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر، رضي الله عنه ينفق عليه لقرابته منه، فلما وقع حديث الإفك، وعلم أن مسطحاً كان من المتورطين فيه، حلف أن لا ينفق عليه أبد الدهر لظلمه لابنته ووقوعه في عرضها.
فأنزل الله تعالى في ذلك: ((ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم)) [النور:22، وراجع الجامع لأحكام القرآن (12/207ـ209) في تفسير الآية].
لقد كان أبو بكر، رضي الله عنه رفيقا رحيما كثير الشفقة والرحمة، ولم يكن من عادته الشدة والقسوة، كما هو معروف عنه وعن سيرته رضي الله عنه، ولكن شأن هذه الحادثة المفتراة كان لا يحتمل، فقد كان يتناول عرض ابنته أعف نساء العالم وامرأة أفضل الأنبياء والرسل، ينزل جبريل في بيتها فيتلو وحي الله على نبيه، فلم يكن غضب أبي بكر رضي الله عنه انتقماً لنفسه وإنما كان لله - وإن كانت نفسه البشرية لا ترضى بالضيم الواقع عليها – وكان ما ينفقه على مسطح فضلا منه وإحسانا -.
فرأى أنه لا يستحق ذلك الفضل والإحسان، لعظم مساءته التي اقترفها، فقطع عنه النفقة، ومع ذلك يؤكد الله تعالى عليه تلك التأكيدات المتوالية، ليعفو ويصفح عن مرتكب ذلك الذنب العظيم، ويعيد إليه فضله: فقد نهاه في الآية الأولى عن الاستمرار في حلفه: ((ولا يأتل)) وذكره بالقرابة التي شرع الله وصلها، وبالمسكنة التي يستحق صاحبها الرحمة والإحسان، وبالهجرة التي هي من أعظم ما يتقرب به المسلم إلى ربه في سبيل دينه، ثم أمره بالعفو والصفح.
ثم أتبع ذلك بالتشويق الذي لا يقدر المؤمن العادي على عدم الاستجابة له، فضلا عن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)) وكأن الله تعالى يذكر المؤمن بأنه إذا اعتدى عليه أخوه المؤمن فليغضب لانتهاك حرمة الله المتعلقة به، ولكن عليه أن يتجاوز عن زلة أخيه ويعفوكما يحب أن يعفو الله عنه إذا عصاه.
ومن المعلوم أن نفسية المؤمن حينما تكون متخلقة بأخلاق الحلم والعفو والتسامح فإنه يكون مثلا يُحتذى في الملاطفة وسمو الخلق ولين الجانب وحسن المعشر ..
ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك إلى هذا الخلق فقال : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) أخرجة الترمذي
وقال صلى الله عليه وسلم ( من كانت عنده مظلمة لأخية من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم ، من قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم ، إذ كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه ) رواه البخاري
فما أسعدك أخي الكريم إن عفا عنك من أخطأت في حقه فتجاوز وأغض الطرف .. وانظر معي إلى قوله تعالى حين قال (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) قال عقبة رضى الله عنه : ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده ، فقلت : يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال فقال: يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك ) رواه أحمد
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجىء بها ، فقيل : ألا نقتلها؟ قال : لا ، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم 0 ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) رواه البخاري .
وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على العفو والسماحة حثاً عاماً وذكر ما يترتب على ذلك عند الله سبحانه وتعالى.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) [مسلم (4/2001) والترمذي (4/376)].
إن مشروع التسامح يا أيها الأحبة من أفضل المشاريع المعمارية في حياتنا اليومية وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) ينبغي أن يكون دائماً نصب أعيننا في كل تعاملاتنا ، وشؤون حياتنا . وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابو داود : ( من كظم غيظاً وهو يستطيع ان ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخَير في أي الحور العين شاء )
وروى الطبراني عن عبادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ، ويرفع الدرجات ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : ( تحلم على من جهل عليك ، وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ) صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.